هذه مقالة متشائمة ، بعث بها إليّ صديق
متأدب ، هو يوسف من النوفلية ، قد قرأ لي شيئاً من قبل ، وطلب إصلاح نحوها ونشرها
. وقد بذلت جهداً في تصليح نحوها ، والتخفيف من مبالغتها في موضوعها ، ولكنها ما تزال
سوداء الأفق ، فأتركها لكم .
وحفاظاً على فكرتها لم أغير فيها . علماً
بأنني أعترض على ما ورد فيها . كتب يقول :
عجوز بين عهدين
عدد من أبيات الشعر الشعبي ، عثرت عليها
، أثارت شجوني ، وملكت مشاعري ـــ لأنها تعبر عن سلوكي شخصياً قبل غيري ـــ فظللت
( أتهجى ) بها أناء الليل ، وأطراف النهار ، حتى أنكرت نفسي ، وعجبت أسرتي . واقترح
عليّ التعبير عنها بعض معارفي .
في الأبيات يبكي الشاعر حياته القديمة ،
من طيب الطعام ، وسماحة الأيام ، وارتداء الجديد ، ولذة اقتناء المئات من الغنم والإبل
، يسرحها رعاتها العبيد المشترون ، ويسلي نفسه بذكرى فروسيته ، ويضفي على حصانه صفات
رائعة ، بكنايات معبرة .
والغريب أن كثيرين منا يعشقون تلك الذكريات
، ويحنون إلى العيش فيها ، وإن كانت قاحلة جافة ، بالقياس إلى رفاهة عيشنا ، وغضارة
نعمتنا اليوم . فما السبب ؟؟ .
ثم يطوي صفحة ماضيه المشرق ، ليعبر إلى
حاضره المظلم ، فيكشف عن عقوق الدهر ، وتنكر الأيام ، حيث تجف السعادة ، وتنطفئ الأنوار
، ويتعكر المسار ، وينصب عقاب الزمان ، فيستفحل الإهمال والنسيان ، وتهبط على حياته
ظلمة كاسحة ، تحجزه في ركن النسيان ، فلم يعد يستدعى ليتلذذ بحضور المواعيد ، ويتمتع
بحل الإشكالات ، وإصلاح ما أفسد الدهر ، وأسوأ من ذلك ، أن تنقلب الموازين ، فتعدو
الرذائل على الفضائل ، فتذل الفضائل أمام سطوة أخواتها الرذائل ، حتى لتضج وتطلب العون
، وربما لا من مجيب :
ريت الكلب في السباع اينيب ### صايل عليهن
طالبات انجاد
وكفى بذلك عقوقاً وهواناً .
ثم يبلغ القمة في التعبير عن الانحدار والهوان
، حين يتحدث عن نفسه فيقول :
جفونا أصحاب اقريبين اقريب ### بعد قرب
واجد قابيين ابعاد
وكلها صرخات كنائية ، تعبرأدق تعبيرعن نكد
الدهر ، وقسوة الزمان ، وتغير الأحوال ، وتبدل الناس والطباع .
والأبيات وإن وردت في أسلوب شعر شعبي ،
إلا أنها تدمغ الحقيقة ، وتوثق الواقع ، وتجسد الحياة اليوم ، وهذا شعور كثيرين عندنا
في هذه الحقبة ، من تاريخنا . فنحن تسود حياتنا أنانية مفرطة ، أدت إلى تقطع في صلات
الأرحام ، وجفاف للمودة من القلوب ، وتباغظ شيطاني على غير سبب ، انتهت أخيراً إلى
أن كل نفس منا ، أوشكت أن تدخل جحرها ، وتغلق بابها ، وتصم أذنيها ، وتقفل نوافذ الاتصال
بغيرها ... ومن الغفلة أن ينسب أحد ذلك التقطع في العرى ، والتفكك في المجتمع ، إلى
آفة الكرونة ، فإن حظر الكرونة وليد جديد ، وإذا كان الشعراء القدماء ، يعبرون عن نكد
الدهر ، بتغيرمعالم الطبيعة ، فإن شاعرنا عمد مباشرة ، إلى انتكاس الأخلاق وانقلاب
العادات ، وما تعارف الناس عليه ، فقال :
يا ما كلينا من لذيذ وطيب ### وياما ألبسنا
من جديد وباد
ويا ما اركبنا بو مسار ايخيب ### يدير عليهن
وين صار اعناد
عشنا عقاب الدهر حال ايشيب ### ما اتقول
كنا رسوة الميعاد
او لا اتقول مددنا شوي واركيب ### ورعيان
شريوا من عبيد اتشاد
ريت الكلب في السباع اينيب ### صايل عليهن
طالبات انجاد
جفونا اصحاب اقريبين اقريب ### بعد قرب
واجد قابييــن ابعاد
فهل يحس القراء بشيئ ، مما يعبرعنه الشاعر
الشعبي والكاتب المتشائم ؟ . كم نود منهم الإفصاح عما في نفوسهم إزاء ذلك ؟؟ . وحبذا
لو يتجاوزون مجرد التأسف .
ادريس فضيل
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق